يلجأ العديد من أفراد المجتمع إلى تنظيم مظاهرات سلمية، سواء أكانت معارضة للسلطة الحاكمة أم مؤيدة لها، للتعبير رأيهم في قضايا معيّنة، أو للمطالبة بحقوق المشتركة للقائمين على التظاهرة. وتعدّ التظاهرات السلمية إحدى أنواع الاحتجاجات الشعبية، بل هي الأشهر من بين تلك الاحتجاجات، والأقدر على الوصول بهذه الاحتجاجات إلى غايتها المأمولة.
فماذا تعني التظاهرة؟ ولماذا يلجأ إليها الأفراد والجماعات والمنظمات والجمعيات والأحزاب؟ وما هي الآليات التي ينبغي اعتمادها في التظاهرات للتعبير عن الرأي، أو المطالبة بالحقوق والامتيازات؟ ومن هي الجهات المسؤولة عن حماية أمن التظاهرات؟ وكيف لها أن تمارس هذا الدور في حال خرجت التظاهرات عن صفتها السلمية إلى غير السلمية؟
التظاهرة، وهي النصرة والمعاونة، ويُقال ظاهر فلان فلاناً أي ناصره وعاونه. ومنه قوله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم/ 4) فقوله «تظاهرا»، أي تناصرا وتعاونا على النبيّ (ص). وقوله «ظهير» أي نصير ومعين.
في الإصلاح؛ تُعرف التظاهرة أنّها (تجمع لأشخاص تجري في ظروف معينة للتعبير عن إرادة جماعية أو مشاعر مشتركة، ذلك بدوافع متعدّدة ومختلفة، كإحياء مبدأ أو تخليد ذكرى أو إظهار ولاء أو إبداء استياء أو احتجاج، وتتنوّع التظاهر التي يعبر فيها المتظاهرون عن أفكارهم، فقد تأخذ شكل الصياح والهتافات، وترديد عبارات وأناشيد مختلفة، أو حمل الصور والأعلام والإشارات وغيرها من مظاهر التعبير الأُخرى).
وفي تعريف ثان، تعني التظاهرة (قيام مجموعة من الناس بالتجمهر في مكان عام، والتحرّك نحو جهة معلومة مطالبين بتحقيق مطالب معيّنة، أو مؤيدين لأمر أو معارضين له، معبرين عن مطالبهم بشعارات وهتافات، أو من خلال صور ولافتات).
وتعدّ (التظاهرات السلمية) مظهر من مظاهر حرّية الاجتماع، وهذه الحرّية (حرّية الاجتماع) أو (حرّية التجمعات) هي واحدة من أهم الحرّيات العامّة، والحقوق الأساسية للإنسان، حيث ترتبط بعدد من الحرّيات الفكرية الأُخرى، كحرّية الرأي والتعبير، وحرّية العقيدة. وتعدّ وسيلة لممارسة هذه الحرّيات.
ولذلك؛ فقد حرصت الدول الديموقراطية على التأكيد على هذه الحرّية (التظاهرات السلمية) في دساتيرها، وتنظيم ممارستها في قوانينها. ونجد أنّ الدساتير الديمقراطية تحرص على تكريس الحرّيات العامّة للأفراد، وتجعل المهمّة الأساسية للدولة هي حماية هذه الحرّيات، وكفالة ممارستها بأعلى درجة ممكنة، لأنّه بات من المسلَّم به في دول عالمنا المعاصر أنّ نظام الحُكم لا يعدّ ديمقراطياً ما لم يكفل تمتع الأفراد بحرّياتهم، لاسيّما التظاهرات السلمية.
ولاشكّ أنّ تنوّع أساليب التجمعات، والتظاهرات، والاحتجاجات، وطُرُق التواصل الجديدة فيما بين القائمين عليها والمنظمين لها، يمثل تحدّيات كبيرة على حفظ أمن التظاهرات السلمية. فالدولة وسلطاتها المسؤولة عن حماية هذه التظاهرات ليست مكلفة بالاعتراف بحقّ المواطنين في التجمعات السلمية وحسب، بل هي مكلفة بحماية تلك التجمعات والتظاهرات، وعدم تعرّضهم إلى خطر الاعتداء، سواء أكان ذلك الاعتداء يصدر عن الجهات المختصة المكلفة بإنفاذ القانون، أم يصدر عن أحد أفرادها، كتصرّف غير مسؤول، أم عن أفراد يتصرّفون بالنيابة عن الدولة، أم عن بعض المندسين الذين يرغبون بتحويل تلك التجمعات والتظاهرات السلمية إلى اضطرابات.
من هذا المنطلق؛ فإنّ حفظ أمن التظاهرات السلمية، ليست بالمهمّة السهلة التي يمكن أن يقوم بها أي فرد حكومي أو أي جهاز حكومي، إنّما تتطلب هذه المهمّة المعقدة مهارات وقدرات مختلفة عن حفظ الأمني الروتيني، وعلى وجه التحديد؛ فإنّ هذه المهمّة تتطلّب الموازنة بين المصالح والحقوق المتعارضة للأطراف كافة، المتظاهرين منهم وغير المتظاهرين ممّن تتضرر مصالحهم من تلك التظاهرات. إذ ينبغي ملاحظة أنّ العديد من التظاهرات تسبّب درجة معيّنة من تعطيل الروتين اليومي، ولكنّ الشوارع والأماكن العامّة الأُخرى هي مواقع مشروعة للتجمعات، بقدر ما هي طُرُق عام للسيارات والمشاة، وينبغي أن تهدف الشرطة إلى تحقيق التوازن بين الحاجات المتعارضة لمستخدمي الأماكن العامّة بدلاً من تقييد أفعال المشاركين في التظاهرات العامّة.
وبناء عليه؛ فمن المهم أن يكون في كلِّ دولة جهاز حكومي خاص بالتعامل مع التجمعات العامّة والتظاهرات والاحتجاجات، وأن يكون ضباط وأفراد هذا الجهاز مدربين بشكل جيِّد على كلّ من مبادئ وممارسات حقوق الإنسان، وإدارة الحشود، وأن يكونوا مجهزين بشكل مناسب لتوفير الحماية وللحفاظ على النظام، وعلى عملية التدريب تجهيز وكالات إنفاذ القانون بقدرة التصرّف بطريقة تتجنّب تصعيد العنف، وتقليل من الصراع، بما في ذلك المهارات الناعمة مثل التفاوض والوساطة. مع ضرورة التقليل من حالات اللجوء إلى القوّة إلى أقصى حدّ ممكن.
وينبغي للشرطة أن تميز بين المشاركين في التجمع وبين غير المشاركين، وبين المشاركين السلميين وغير السلميين، وأحياناً تتغير التجمعات من كونها سلمية لغير سلمية. وهكذا تخرق الحماية الممنوحة لها بموجب قانون حقوق الإنسان. وعليه؛ يمكن إنهاء هذه التجمعات بطريقة متناسبة. ولكن استخدام العنف من جانب عدد قليل من المشاركين في التجمع بما في ذلك استخدام لغة تحريضية لا يحول ذلك التجمع السلمي إلى تجمع غير سلمي. كما ينبغي أن يهدف أي تدخل إلى التعامل مع أفراد معينين متورطين، بدلاً من تشتيت التظاهرة كلّها.
وينبغي أن تلتزم الشرطة، وقوات حفظ النظام بعدم استخدام الأسلحة النارية بحقّ الأفراد المتظاهرين، إلّا في حالات الدفاع عن النفس، أو الدفاع عن الآخرين ضد تهديد وشيك بالموت، أو الإصابة الخطيرة، أو لمنع ارتكاب جريمة بالغة الخطورة، تنطوي على تهديد خطير للأرواح، أو للقبض على الشخص الذي يمثّل هذا الخطر، ويقاوم سلطتهم، أو لمنع فراره، وفي جميع الأحوال لا يجوز الاستخدام العمدي القاتل للأسلحة النارية إلّا عندما يتعذر تماماً تجنّبها لحماية الأرواح.
فحيث أنّ لكلِّ شخص الحقّ في المشاركة في التجمعات القانونية والسلمية طبقاً للمبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تعترف الحكومات والوكالات المكلفون بإنفاذ القانون بأنّه لا يجوز استخدام القوّة والأسلحة النارية إلّا طبق لمبدأين (الأوّل: في تفريق التجمعات غير القانونية ولكنّها لا تتسم بالعنف. والثاني: في تفريق التجمعات التي تتسم بالعنف).
نعم؛ إنّ وجود عناصر الشرطة أو غيرها من أجهزة إنفاذ القانون التي يحقّ لها التدخل أو تفريق التجمع أو اللجوء إلى القوة لا يعني بالضرورة أنه ينبغي دائما استخدام هذه الصلاحيات لفرض القانون، فحيث يحدث في تجمع انتهاك للقوانين المعمول بها، ولكن التجمع يبقى خلاف ذلك سلميا. فان عدم التدخل أو التسيير النشط في بعض الأحيان يكونان أفضل وسيلة لضمان التوصل إلى نتيجة سلمية.
ففي كثير من الحالات قد يتسبب تفريق تجمع في نشوء المزيد من مشكلات إنفاذ القانون، أكثر من تيسيره السلمي، فالحماسة المفرطة أو المعاملة القامعة للأحداث من المرجح أن تقوض بشكل كبير العلاقات بين الشرطة والمجتمع. وعلاوة على ذلك فإنّ الكلفة من حماية التجمع والحقوق الأساسية الأُخرى من المحتمل أن تكون أقل بكثير من كلفة مواجهة اضطراب ناتج عن القمع، وتبقى المقاضاة على انتهاكات القانون ما بعد الحدث خياراً مطروحاً.
وإذا اعتبر التفريق ضرورياً يجب إبلاغ المنظمين والمشاركين في التجمع بشكل واضح ومسموع قبل اتّخاذ أي تدخل من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون، وينبغي أيضاً إعطاء المشتركين مهلة معقولة للتفرق طوعاً، وفقط في حالة فشل المشاركين في التفريق فإنّه على المسؤولين عن إنفاذ القانون التدخل بطريقة أو أُخرى.
ومن أجل ضمان عدم اعتداء الشرطة أو أجهزة حفظ النظام العام على المتظاهرين السلميين فإنّه يحقّ لممثلي المنظمات الإنسانية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم من أنواع المراقبين حضور التظاهرات العامّة، ويمكن أن يكون لهم دوراً إيجابياً في مراقبة الامتثال لحقوق الإنسان، وتتحمّل السلطات مسؤولية تسهيل تواجدهم في هذه الفعاليات، ويجب أن يسمح للمراقبين بالتحرّك بحرّية في التجمعات العامّة. وبالمثل يحقّ لوسائل الإعلام حضور التظاهرات السلمية، وتقديم تقارير إعلامية عنها، ويتحمّل المكلفين بإنفاذ القانون مسؤولية عدم منع أو عرقلة عملهم.
نخلص ممّا تقدّم ما يأتي:
1- إنّ الحكومة هي الجهة الوحيدة المسؤولة مباشرة عن حفظ أمن التجمعات العامّة والتظاهرات السلمية، ولا ينبغي ترك هذه المسؤولة أو أناطها إلى أي جهة أُخرى غير حكومية، تحت أي مبرر كان.
2- إنّ الحكومة مسؤولة عن تعيين جهاز حكومي خاص، يتولى حفظ أمن التظاهرات السلمية. وينبغي ضمان أنّ المسؤولين عن إنفاذ القانون يتلقون تدريباً كافياً في حفظ الأمن للتجمعات العامّة. وعلى علمية التدريب تجهّز قوات حفظ النظام بقدرة التصرّف بطريقة تتجنّب تصعيد العنف وتقليل من الصراع.
3- على المسؤولين عن إنفاذ القانون تحمّل المسؤولية عن أي فشل في الوفاء بالتزاماتهم الإيجابية بحماية وتسهيل الحقّ في حرّية التجمع السلمي، وكذلك الأفراد الذين يتصرّفون بالنيابة عن الدولة.
4- يتوجب على الدولة أن تضع آلية رقابة مستقلة لمراجعة وتقديم تقارير عن جميع عمليات الشرطة الواسعة النطاق والمثيرة للجدل فيما يتعلّق بالتجمعات العامّة.
5- حين تتلقّى الدولة شكاوى تتعلّق بسلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون أو في حالة إصابة شخص إصابة خطيرة أو فقدانه للحياة نتيجة لإعمال موظفي إنفاذ القانون لابدّ من إجراء تحقيق رسمي فعّال. وينبغي أن يكون الغرض الأساسي من أي تحقيق ضمان التنفيذ الفعّال للقوانين الوطنية التي تحمي الحقّ في الحياة والسلامة الجسدية.
6- ينبغي أن تلبّي ظروف الاعتقال الحدّ الأدنى من المعايير، حيث يحتجز الأفراد يجب على السلطات ضمان تزودهم بما يكفي من الإسعافات الأولية والضروريات الأساسية (الماء والغذاء) وإتاحة فرصة التشاور مع المحامين، وفصل القاصرين عن البالغين، والذكور عن الإناث المحتجزات. ويمنع سوء معاملة المحتجزين في الحبس، ولابدّ من الإفراج عن الأشخاص الذين يجري القبض عليهم ما لم يشكّل ذلك خطراً على السلامة العامّة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق